الخميس، 11 يوليو 2013

أجدادنا! كيف كانــوا يأكلــون؟


أجدادنا! كيف كانــوا يأكلــون؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ







المهندس والباحث/ محمد عيدروس علي السليماني


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بادئة: أريد أن أنبه القراء بأن ما سأقدمه من مواضيع لاحقا, و منها هذا المقال, تغطي فترة طويلة من حياتنا و هي فترة الاستعمار البريطاني للجنوب. و يعود ذلك لأنني منذ سنوات و أنا أقوم بإعداد بحث عن التاريخ السياسي لمنطقة العوالق العليا و بضمنها منطقتي حاضنة خليفة و مرخة الهلاليتين خلال فترة الاستعمار البريطاني (1839- 1967). و قد أطلعت على العديد من الوثائق المحلية و البريطانية و الكتب البريطانية والعربية و الصحف العدنية أيضا التي لها صلة بموضوع البحث. و مما وجدته في هذه الوثائق, سأكتب عن عدد من المواضيع التي لها بعض الإسقاطات على واقعنا اليوم. و ستتنوع المقالات من النوع الاجتماعي, إلى السياسي, إلى الثقافي... الخ. و الآن إلى المقال التالي كما في عنوانه. 
---------------------------

خلفية عامة: هذه المنطقة, المسماة في الأدبيات البريطانية بالعوالق العليا, و التي تشمل اليوم مديريات, عتق و الصعيد و نصاب وحطيب و مرخة السفلى(و بضمنها خورة), منطقة بعيدة عن البحر العربي , فلا شاطئ لها يخالطها بالأغراب, و لا طرق برية سهلة تربطها بعدن, لذلك فقد بقيت منعزلة بين جبالها و صحرائها فترة من الزمن. و بقيت رهينة في حياتها و معاشها,على ما تجود به أراضيها الزراعية و بيئتها النباتية و الحيوانية البرية من أرزاق. لكنها في النهاية, لم تسلم من تأثيرات الجيران, مثل اليمن, و حضرموت, و عدن المستعمرة البريطانية و لو ببطء شديد في البداية. الناس و الموارد المتاحة:في بداية القرن العشرين و لنقل 1900م كان إجمالي سكان هذه المنطقة , بحسب اعتقادي و اعتمادا على بعض المؤشرات, يقدر بـثلاثين ألف نسمة تقريبا, و أما اليوم فهم يقاربون المأتي ألف نسمة (حسب إحصائيات عام 2004 مع مدها إلى 2010). و كانت حياتهم قائمة على اقتصاد الكفاف ( أي ليس لديهم فائض من الحبوب, فبالكاد يكفيهم ما يتيسر لهم من إنتاج زراعي من أراضيهم.) لكن ضمن هذه المنطقة كانت منطقتي مرخة و نصاب أفضل حالا, ففي بعض السنوات يتم سد حاجة الناس في مواسم الجفاف الطويلة من فائض إنتاجهن من الحبوب, لكن هاتين المنطقتين كانتا أحياننا تستوردان الحبوب من اليمن و بيحان. كما كان للحروب القبيلية البينية دورا كبيرا في إفقار المنطقة و تضييع موارد أهلها و تسخيرها لشراء الأسلحة و الذخيرة للانتقام و لأخذ الثار أو التنبه للخصوم المجاورين. شح الطعام: من رحمة الله بالناس أن أعدادهم كانت قليلة و وتتناسب مع الشح في الإنتاج, و محدودية مصادر الغذاء الأخرى التي تتوفر في بيئتهم, إلى جانب عزلتهم الشديدة عن الغير, و أيضا الفقر السائد و الذي يتميز بقلة النقود بأيدي الناس, إلا الموسرين منهم. أمام كل تلك العوامل نجد أن الناس قد تأقلموا مع هذا الشح, فلم يكن متاحا لهم في يومهم إلاّ وجبتين فقط. أحداهما صباحا و الأخرى بعد مغيب الشمس. و كانت أغلبها تتكون من خبز المسيبلي أو الذرة. رغم أن الناس في ذلك الوقت,كانوا أقل تدينا من اليوم, فكأن إتباعهم لنظام الوجبتين يتماشى مع قوله تعالي في سورة مريم الآية رقم 62 ( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) و قد فسّرها الشيخ عائض القرني في كتابه التفسير الميسرو بالذات ما يختص منها بالرزق ...و يطعمون فيها أول النهار و آخره كلما أرادوا الطعام مع حسن المقام و الأمن و السلام . و قد حضرني هذا التشابه رغم التناقض الشديد ما بين ساكني الأرض و ساكني الجنة في هذا التشابه اللفظي. إن الوجبتين لا تعنيان أن هذا الفرد, ذكرا أم أنثى, يظل دائما صائما ما بينهما, فقد كان أحيانا يجد ما يسد به جوعه من النباتات البرية مثل الفاتيخ , و القاريح و المغد, و الزغاليل, و صمغ أشجار القتاد, و الغلّثة, و الدوم و الرصيع, و الغلفق و السلع و الدجر و الفقوس. كما يسد جوعه أيضا من صيد الحيوانات البرية مثل الوبران و الأرانب, و الظباء و الوعول, و الضبّان, و الجراد, و حشرة الشظّي ( عالية البروتين) و اليعاقيب, و الحجل, و العطاعط... و حليب المواشي التي ترعى. كما أن شربهم للقهوة التي يضاف إليها حب المسيبلي (الدخن) أو الذرة و الجلجل و تسمى " لسيسة " دور في سد ثغرة الجوع أيضا. كما أن سرقة المواشي من قطعان الأغنام التي ترعى, و في غفلة من الرعاة, لم تكن شيئا نادرا. و في حضرموت( و أنا أسوق أمثلة من حضرموت لأن الحال من بعضه في شح الطعام) كان بعض السادة يجلبون الخبز إلى المساجد بقصد إغراء الناس للصلاة, و في أحد المرات كانت صرة الخبز موضوعة عند رأس الإمام, و عندما سجد قفز أحد المصلين و أخذ الخبز و هرب به مع مجموعة من المصلين. و هنا قال الشاعر: و أدلا على الخبز في القبله و شله و فر خبّو قفاه الجماعه و أفسحوا في السور و بعد ما أقفا و فات الخبز راحوا طير ما عاد واحد رجع صلّى تحير الفكر أما المناسبات الدينية و الاجتماعية فكانت فرصة لأن تحصل الأسرة على طعام أكثر و أفضل. و رغم أنه ليس بالضرورة أن يشمل ذلك اللحم. فاللحم لا يتيسر أكله إلا في بعض المناسبات الخاصة. و من المناسبات الاجتماعية, فترة النفاس للمرأة. فهنا تتوالى على النفاس جفان الزاد (جمع جفنة و هي الإناء المملوء طعاما المسمى زاد) من جيرانها و أهل قريتها أو ساكنها إن كانوا بدوا, فتشبع جوعها و حرمانها, مما يساعدها على مهمة إرضاع طفلها. كما كان طعام الأغلبية من الناس هو المسيبلي و الذرة و ربما الطهف. أما البر فكان طعام الموسرين إلى جانب الحبوب التي ذكرناها. و في ذلك الزمان كان لكل من البر و الطهف و المسيبلي و الذرة رائحته النفاذة التي تميزه عندما يكون خبزا طازجا ساخنا. و كانوا يغمسون لقم الخبز المختلفة بالسليط (زيت السمسم ) قبل أكلها. كما أن أطايب الطعام عند الناس في ذلك الزمان أربعة, بر ميسان ( الميساني) و كباش بيحان, و عسل جردان, و سمن الكيران (جمع كور و منها كور العوالق). و أما المواشي التي يربونها فكانوا يستفيدون من ألبانها و لحومها أو بيعها حسب ما يتيسر الحال. و من جلودها كانوا يصنعون قرب الماء و السمن و السليط, و الوسائد, و الأحذية المسماة الرمش, و أشياء أخرى, و أما صوفها ( ماعزا أو ضانا) فيصنعون منه البسط المعروفة بالفريق و الشقاق و أكياس جمع السبول, و غير ذلك. عادات و آداب الطعام: أمام شح الطعام هذا, فقد كان لأكله عندهم عادات و آداب. ففي الولائم و الصيد يوزع اللحم بالقطعة فيحصل كل فرد على قطعة, تصغر أو تكبر على حسب طبقته الاجتماعية. كما كان الفرد يقبض على لحمته و يأكلها قطعا صغيرة مستخدما سكينه الخاص به, و يمضغها في غير تسرّع. كما أن التحيّز ضد الإناث داخل الأسرة الواحدة, يتجلى في ترك سؤر الطعام لهن(ما نسميه السور) بعد أن يشبع منه الضيوف و ذكور الأسرة بعدهم. و تنكسر تلك القاعدة عندما تكون الذبيحة للأسرة فقط. كما كانت الناس لا ترمي من طعامها أية بقايا إلا فقية للكلب (كسرة صغيرة للكلب) يرمونها له بعد أن يبدأ في النباح عندما يشم رائحة الخبز الطازج. ففي ذلك الزمان كان لكل بيت كلبا, خوفا و تحسبا من الأعداء و من الذئاب و الضباع. كما أن إظهارهم للحمد و الشكر لله على الطعام الذي حظوا به , يتجلى في تلك العادة المسماة بـ كدّاد الصحفة . و الصحفة هي الوعاء الخشبي الذي يهرس فيه الخبز باللبن (الحليب) أو الحقين, أما الـ كدّاد فهو استخدام أصبع السبابة أو أصبع الإبهام في لعق ما تبقى من الطعام على جدران الصحفة, و تنتهي الوجبة و الصحفة لا تحتاج إلا للقليل من الماء لتنظيفها. و من علامات الحرمان من الطعام فإن من رأوه سمينا لا يعيرونه بسمنته بل يسمونه بسطي و لتأكيد ذلك ينطقها الفرد مع شد قبضة اليد و وضع الذراع بشكل أفقي, لتأكيد إن ما يرونه, إنما هو مظهر للصحة و القوة و لبسطة الرزق. التأثيرات الصحية لشح الطعام: كان لشح الطعام تأثيرا كبيرا على صحة و لياقة الرجال و النساء على حد سواء. فمعظم الرجال كانوا رشيقي الأجسام, مستويي الصدور و أثدائهم لا تتدلى, فليس بها من شحم, و بطونهم غائرة كأنها ملتصقة بظهورهم. و كانت ربلة سيقانهم صلبة كالحجر من كثرة المشي و طلوع الجبال. و لا يشبههم في هذا الوصف اليوم إلا الرياضيون الذين يتبعون حمية قاسية و تمارين شديدة. و كانت أمراض سؤ التغذية منتشرة بين النساء و الأطفال أكثر من الرجال البالغين. كما أن مرض الجذام كان منتشرا( مرض جلدي غير معد.), و كان أحد الأسباب الهامة لانتشاره, قلة الدهون الحيوانية, أي ندرة اللحم في غذاء المصابين به. و قد ذكر الضابط السياسي هملتن أنه عندما مر بالمصينعة في طريقه إلى وادي يشبم في عام 1934 أنه و حراسته اشتروا رأسين من الأغنام من أحد الطواسل, الذي ذكر لهم انه رغم أنه يملك أغناما, فإنه لم يأكل اللحم منذ أربعة شهور. المجاعات: تعرضت المنطقة مع غيرها من مناطق الجنوب إلى عدد من المجاعات التي سببها أما الجدب أو انتشار الأمراض الحيوانية التي أماتت المواشي بأعداد كبيرة. و كان تأثر المنطقة يتفاوت. فأحد المجاعات التي شملت معظم الجنوب الغربي للجزيرة العربية كانت في عام 1865, و تبعتها مجاعات و سنوات قحط شديدة في أعوام 1871, 1881, 1905, 1939, 1941, و 1949. و قد دفعت الأخيرة بما يزيد على 200 فرد من النسيين, و همام و آل إسحاق و عوالق آخرين, و القراميش و الكرب , إلى التوجه إلى بيحان للعمل كأجراء في إصلاح سواقي السيول مقابل أن يشتروا بأجورهم حبوبا. و كانت بريطانيا و إمام اليمن يجدان في المجاعات و سنوات القحط فرصة للحصول على مكاسب سياسية, مثل تقديم كميات زهيدة من الحبوب كهدايا للمناطق المتضررة(و كمثال, فقد قدمت بريطانيا لقبيلة همام كمية منها عام 1941), أو منع تصدير الحبوب من اليمن للضغط على بريطانيا. أما مجاعة حضرموت التي حصلت في عام 1949 بسبب الحرب العالمية الثانية في الملايو التي أوقفت تدفق التحويلات المالية من حضارمة المهجر إلى حضارمة الداخل, إلى جانب الجدب, فكما أشارت المصادر البريطانية إلى أن الناس كانت تموت بمعدل مائتين فردا في الأسبوع. و بحكم أهمية حضرموت للسياسة البريطانية فقد نظمت بريطانيا جسرا جويا لنقل المؤن من عدن إلى وادي حضرموت. و كانت همام و المرادعه و آل بريك يبيعون الحبوب إلى الحضارمة في الوادي, و يستلمون أثمانها فضة بعد أن كملت نقودهم ولم تترك المجاعة شيئا منها بأيديهم. وكان باعة الحبوب هؤلاء يأتون بتلك الفضة و يبيعونها إلى صالح بن بسارة بواسطة الشيبه لغجل في عتق, فكانت الفضة تتكدس لديهم في المخازن من كثرتها. و قد علم أحد رجال همام ( و بكل أسف لا يحضرني أسمه) بأن الفضة التي أحضرها أبناءه من شبام حضرموت كانت مقابل الحبوب التي باعوها للناس هناك بمقايضتها بالفضة, فأمرهم أن يعيدوها إلى أهلها معتبرا ذلك صدقة, ففعلوا. التغيرات و التبدل في الطعام: أرى أن أسمي الفترة منذ عام 1839 و حتى عام 1950فترة شح الطعام, أمّا الفترة منذ عام 1951 و فما فوق فهي فترة التغييرات و التبدل في النمط الغذائي للناس و هي فترة الوفرة في الطعام. و من المفيد أن نذكر أنه في أوائل القرن العشرين كانت أهم السلع الوافدة من الخارج إلى المنطقة, هي السكر و القاز(الكيروسين للإضاءة) و البهارات فقط. و أما الشاي فدخل ببطء في حوالي عام 1940 مع أبناء المنطقة اللذين التحقوا بالخدمة العسكرية في جيش الليوي أو حرس الحكومة اللائي أنشأتهن بريطانيا في حوالي عام و1928 و 1938 على التوالي. نعود إلى فترة الوفرة, ففي عام 1951 تم فتح طريق النقبة ما بين المنطقة و عدن عبر المحفد و مودية و أنشئت المطارات ( مهابط ترابية) لطائرات الركاب في قوبان (1951-1954) , ثم تحول إلى عتق (1955 إلى اليوم) و في نصاب (1955). و أدى هذا التواصل البري و الجوي مع عدن إلى تدفق الرز و الدقيق الأبيض (الطابونة) و الزيوت النباتية من غير الجلجل, و المعلبات مثل صلصة الطماطم و البطاطا و الأسماك... كما دخلت معها الألبسة الملونة ( و هذا موضوع آخر ليس مكانه هنا). كما دخلت أيضا, مضخات الآبار و توسعت المساحة الزراعية المروية و توسع إنتاج البر و غيره من المحاصيل. كما أن الصلح الذي فرض ما بين القبائل في مشيخة العوالق و خليفة ( مديريتي عتق و الصعيد اليوم) عند تأسيس أول إدارة مدنية فيها في عام 1951 أوقف الحروب القبلية فيما بين قبائلها, فتوجهوا للتجارة و الوظيفة العسكرية و المدنية و لتعليم أبنائهم, مما بدأ في خلق نوى لمجتمعات مدنية نسبيا. و هكذا بدأت النقود تجري في أيدي الناس, بسبب الوظيفة العسكرية و المدنية و فتح الأسواق ونمو التجارة. كما بدأ المسافرون العائدون من عدن و هم قد تعودوا على نظام الوجبات الثلاث بدلا من الاثنتين, فأدخلوه شيئا فشيئا إلى نمط معيشتهم و أهلهم كمعنى لبسطة الرزق. و مع ذلك استمرت الناس في أكل النباتات و الطيور و الحيوانات البرية التي سبق أن ذكرناها في البداية, على حسب ظروف توفرها, لكن لدوافع غير الجوع.

المراجع: 

1. Aden under British Rule (1839-1967), 1975, by R. J. Gavin.,

2. Political Diaries of The Arab World: Aden 1899–1967,

3. Kingdom of Melchior, 1949 by R. A. Hamilton ( Lord Belhaven), 

4. عادات و تقاليد حضرموت الغربية, 2002, تأليف ميخائيل روديونوف, ترجمة د. على صالح الخلاقي 

5. قلائد الحسان و فرائد اللسان, ديوان الحبيب علي بن حسن بن عبدالله العطاس, الجزء الأول

6. الشيبة أحمد عوض لغجل
7. قراءات و أحاديث متفرقة 


تابع جديد المدونة برسالة على ايميلك

تابعنا على

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More